كانتظارغودو إسرائيل والعالم بانتظار حكومة اليمين القادمة

وتأبى الحلبة السياسيّة الإسرائيليّة إلا أن تثبت يوميًّا، ودون توقّف صحّة المقولة المأخوذة من عالم الرياضة بأن الأرقام القياسيّة لم تأتِ ولم تسجَّل، إلا ليتمّ تحطيمها، أو القول بأن التصريحات والمواقف والتصرّفات السياسيّة ليست حقيقة دائمة، بل هي حقيقة مؤقتة تتلاءم والظروف

16.12.2022 מאת: المحامي زكي كمال
كانتظارغودو إسرائيل والعالم بانتظار حكومة اليمين القادمة


 

أو أنها حقيقة في وقتها فقط. إن الغموض الذي لفّ تشكيل الحكومة المنتهية ولايتها في إسرائيل برئاسة نفتالي بينيت وبعده يائير لبيد، وهو غموض انتهى وزال دقائق معدودة، قبل انتهاء المهلة القانونيّة والدستوريّة لتشكيلها، لم يكن سوى البداية، وأنه يكاد لا يقاس بما شهدته الحلبة السياسيّة هذه المرة بعد انتخابات الأول من نوفمبر، وما يلفّ الحكومة القادمة من غموض لا يخفّف حدّته وضوح مواقف وتوجهات الشركاء فيها، ما يجعل انتظار الحكومة القادمة، وهي يمينيّة، بل يمينيّة متطرفة جامحة تفتقر إلى الكوابح والضوابط والتوازنات، ما يجعل انتظارها بالنسبة لمؤيّديها ومعارضيها في إسرائيل والعالم والمنطقة يشكّل صورة طبق الأصل عن بداية مسرحيّة " في انتظار غودو" التي تدور أحداثها وخاصّة مشهد البداية فيها حول "فلاديمير" و"إستراجون" المعدمين والمشردين، يقفان على قارعة طريق قُرب شجرة عارية، إلا من بعض الوريقات، ينتظران شخصًا  يُدعى "غودو" لمدّة يومين كاملين أملًا في أن يخلّصهما من حالة البؤس والفقر واليأس التي يعيشانها،  لكنّه انتظار من نوع خاصّ، فهما لا  يعرفان أين ومتى سيلتقيان به، ولا إن كان سيأتي أصلًا ، بل إنهما لا يعرفانه إطلاقًا، حتى إنَّ فلاديمير يقول: "طبعًا، لا نعرفه جيّدًا، ولكن نوعًا ما"، لكنهما رغم ذلك يظلان في حالة انتظار، علمًا أن شخصيّة غودو تبقى مجهولةً حتى آخر المسرحيّة، إذ تُشير إلى شخص يأتي للمساعدة، أو إلى الأمل الذي يسعى إليه الإنسان طوال حياته، أمّا المتفرجون والمشاهدون لهذه المسرحيّة فحالهم خلالها  تراوح بين الإشفاق على فلاديمير وإستراجون ( عامة الشعب) اللذين لا يدركان ما ينتظرهما ومن ينتظرهما، ورغم ذلك يواصلان الانتظار وبين الغضب على غودو الذي زرع في عقل الشابين آمالًا هي أضغاث أحلام، وأقنعهما كذبًا أنه المنقذ المخلص، وبين التزام الصمت والهدوء من باب التوقّع والانتظار حتى تتكشف الحقيقة كاملة، وبين من حذَّرهما، بل غضب عليهما لتصرفهما وصمتهما وسلبيتهما وانتظارهما الفرج، أو التغيير من عنوان مجهول  كغريق يتمسّك بقشة. وهو تمامًا حال ومواقف الجهات السياسية الإسرائيليّة والدوليّة والإقليميّة ، بانتظار الحكومة القادمة وآدائها على أرض الواقع،  وهي مواقف تتفاوت وتختلف باختلاف موقع صاحبها، أو حاملها، وتتراوح بين  انتظار اتضاح الحقيقة والأعمال على أرض الواقع، وهو موقف أميركا وأوروبا، والتزام الصمت وهو موقف الدول العربيّة التي تملك اتفاقيّات سلام مع إسرائيل، أو الغضب والانتقاد الشديد كموقف الفلسطينيين في مناطق السلطة الفلسطينيّة والمواطنين العرب داخل إسرائيل ومعهم المعسكر الخاسر للانتخابات، وصولًا إلى موقف إسداء النصح للشابين في محاولة مراجعة حساباتهما ومواقفهما، وتغيير طريقة تصرفهما لعلّهما يصلان إلى نتيجة أفضل تجعل حالهما أحسن ولو بقليل، ما يمنع النهاية المحتومة لهما في المسرحيّة حين قررا أخيرًا أن يشنقا نفسيهما باستخدام حزام "إستراجون"، ولكنَّ الحزام يكون ضعيفًا وينقطع، فيتفقان على إحضار حبل متين في اليوم التالي إذا لم يأتِ "غودو" وينقذهما من تلك الحالة، وقد عقدا العزم على الانتحار، والمغادرة عندما يحلّ الليل، ولكنهما رغم ذلك لا يبرحان مكانهما، وهو حال الأغلبيّة بين اليهود في إسرائيل الذين يدركون في قرارة نفسهم أن الحكومة القادمة إذا ما نفّذت أجنداتها ووعودها الانتخابيّة كاملة فإن "غودو الحكومة القادمة" سيكون على شاكلة حروب دينيّة متواصلة، وضمّ للضفة الغربيّة وقطيعة مع فئات كبيرة من اليهود في العالم خاصّة من التيار الإصلاحيّ، ومواجهات دائمة مع الدول العربيّة حتى تلك التي تملك مع إسرائيل اتفاقيّات سلام، وانتفاضات متكرّرة ومستمرة وتوتّرات داخليّة بين المتدينين اليهود والعلمانيين، ناهيك عن توتّرات وصدامات بين اليهود والمواطنين العرب  داخل الدولة الذين يريدهما وزير الأمن القوميّ في الحكومة الجديدة مخلصين صاغرين  دون حقوق، مطيعين له ولدولة اليهود (ليس الديمقراطيّة وليس اليهوديّة )، وإلا فالويل لهم  والطرد والترحيل ربما بانتظارهم، وربما سيكون مصيرهم أشبه بمصير العبد الأخرس  "لاكي" في المسرحيّة ، الذي يقوده سيده المتغطرس من حبل رَبطه حول رقبته، وحمَّله الكثير من الأمتعة الثقيلة.  وستكون نتيجة الحكومة الجديدة هدم، بل اغتيال للجهاز القضائيّ وضرب آخر احتمالات المساواة والمواطنة الكاملة والتامّة، وهي أبسط أُسس الديمقراطيّة التي طالما تغنّت بها إسرائيل، فهذا هو الحال السياسيّ الحالي في إسرائيل، في ظلّ انتظار حكومة عضواها البارزان هما بتسلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير ،  تعكس واقعًا سياسيًّا  غير منضبط، بل مشاكس ومعاند، ومشاغب، أو بكلمة واحدة  ،حالٌ يكشف الواقع ويسمي الأشياء بأسمائها الحقيقيّة دون مواربة ، وهو ما يفعله النصّ المسرحيّ في نماذجه الجادّة والجيّدة.

 

 


وانطلاقًا ممّا سبق، شدّني لقاء سفير الإمارات في إٍسرائيل، محمد آل خاجة، مع رئيس حزب الصهيونيّة الدينيّة اليمينيّ المتطرّف، بتسلئيل سموتريتش، في مكتب الأخير في الكنيست. بعد أسبوع من لقائه  رئيس حزب "عوتسما يهوديت" إيتمار بن غفير، خلال احتفال في سفارة الإمارات بمناسبة يوم استقلال الإمارات، خاصّة وأنهما  الأكثر تطرّفًا ويمينيّة وتهوّرًا وعداءً للفلسطينيّين والعرب والمسلمين، بل كلّ من هو وما  هو غير يهودي، بل غير متطرّف ومتزمت. وهما من أعلنا على رؤوس الأشهاد أنهما يريدان ضمّ الضفة الغربيّة بكاملها، وأنها ملك لإسرائيل واليهود بأوامر إلهيّة توراتيّة، وأن المسجد الأقصى هو ملك لليهود ومتاحة الصلاة فيه، وأن قمّة طموحهما هي إقامة الهيكل مكانه، وهي لقاءات تمخّضت عنها بيانات صحافيّة جاء فيها أن سموتريتش وآل خاجة تحدّثا حول العلاقات بين الدولتين، وعن  دفع السلام والتطبيع مع دول أخرى في المنطقة، وأن التعاون الاقتصاديّ بين البلدين ينطوي على مصلحة هائلة لكلا الجانبين والمنطقة كلّها، من خلال استغلال التفوّق النسبيّ لكلّ دولة وقدرة دعمها للدولة الصديقة ، بينما أكّد إيتمار بن غفير اعتقاده بإمكانيّة عقد سلام بين الإسرائيلييّن والعرب، بدون تنازلات وبدون استسلام، علمًا أن رئيس حزب الليكود والمكلّف بتشكيل الحكومة المقبلة، بنيامين نتنياهو، كان المتحدّث المركزيّ في حفل السفارة الإماراتيّة، وهو لقاء يكتسب أهميّة خاصّة وأن البروتوكول الدبلوماسيّ الرسميّ والمتبع لا يلزم السفارة الإماراتيّة في إسرائيل ولا الإمارات كدولة  أن تدعو زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، حتى بصفته المستقبليّة كرئيس للحكومة، إلى حفل سنويّ بمناسبة الاستقلال، فكم بالحري دعوة نواب في الكنيست سيتولّون مناصب وزاريّة مستقبليّة، وبالتالي فتعليلات وتفسيرات وأبعاد هذه الدعوة كثيرة ومتنوّعة، خاصّة وأنها جاءت من دولة الإمارات التي اعتبر نتنياهو التوقيع  معها على اتفاقيات أبراهام إنجازًا تاريخيًّا نافسته على قصب السبق فيه إدارة أميركيّة كانت حينها في أوج نشوتها الترامبيّة( التي خفت بريقها في الولايات المتحدة مؤخّرًا لكنّها ما زالت في أوجها في إسرائيل ما ينذر بعواقب وخيمة للغاية سنعود اليها تفصيلًا لاحقًا).  وتم التوقيع عليه في واشنطن وبمراسم احتفاليّة، وكأنه اتفاق سلام بين الامارات وأميركا نفسها، وحصلت الإمارات مقابله على طائرات إف 35 أي، تلا ذلك تنازل إسرائيليّ من حكومة نتنياهو عن قرار ضمّ الضفة الغربيّة وغور الأردن، كما نصّت على ذلك صفقة القرن التي ولدت كورشة اقتصاديّة في المنامة، فالتعليلات تتراوح بين كون اللقاء فرصة للتعارف والاستماع إلى المواقف مباشرة من أفواه أصحابها، وبين لقائهم لإفهامهم أن المواقف تتغيّر بتغيّر المناصب، وأن ما نراه من هنا، وكما قال أريئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، هو ليس ما نراه من هناك، أي أن إطلاق التصريحات أسهل بكثير حين تكون في المعارضة، أو حين تخوض معركة انتخابيّة، لكنّ المسؤوليّة الوزاريّة تحتّم تصرفات مختلفة، كما كان في عهد شارون الذي كرّر طيلة سنوات عبارة أن الأردن هو الوطن القوميّ للفلسطينييّن، وأن مستوطنة نتسريم في قطاع غزة لا تقلّ أهميّة استراتيجيّة وأمنيّة ويهوديّة دينيّة وقوميّة عن تل أبيب. وهو نفس شارون الذي قرّر لأسباب أمنيّة ويهوديّة وقوميّة الانسحاب من قطاع غزة حتى آخر شبر وتفكيك كافّة المستوطنات بما فيها نتسريم المذكورة، تمامًا كما مناحيم بيغن الذي أخلى سيناء بكاملها ضمن اتفاق سلام مع مصر، بما في ذلك طابا، وهو الذي سبق وقال إن المستوطنات في سيناء هي جزء من الحلم الصهيونيّ ومن جوهر الوجود اليهودي، وبين نقل الرسائل الدبلوماسيّة الواضحة ومفادها أن الدعوة لمثل هذا الاحتفال،  لم تكن لتحدث لولا موقف الإمارات الذي جعل إسرائيل تتخلّى عن قضية الضمّ، وهي الخطوة التي كانت ستشكّل ضربة قاصمة، بل قاتلة للشأن الفلسطينيّ، ولن تتكرر إذا تم الضم، وأن اتفاق ابراهام مرهون بعدم الضمّ، وبعدم تطبيق سياسات سموتريتش وبن غفير في الضفة الغربيّة والقدس الشرقيّة والمسجد الأقصى، أي أنها كانت  رسائل تحذيريّة من المرجّح أن فحواها كان، بكلمات أو أخرى،  يتلخّص في أن تغيير الوضع القائم في القدس والمسجد الأقصى والضفة الغربيّة هو "خط أحمر" يقابل اجتياز إسرائيل له، ردّ إماراتي قد يصل حدّ تجميد اتفاقيات ابراهام وثمارها الاقتصاديّة الرائعة والكبيرة لإسرائيل الدولة وللمستثمرين وأرباب الصناعة فيها وشركات الهايتك والصناعات الأمنيّة وغير ذلك، ناهيك عن أن الإمارات والتي استثمرت عشرات ملايين الدولارات في قطاع غزة، وأقامت المباني والمشاريع الإنشائيّة تريد للهدوء أن يستمر من منطلق إدراكها لخطر المواجهة في القطاع واحتمال انتقالها إلى الضفة الغربيّة والقدس ما سيجعل أيّ محاولة للتقارب بين إسرائيل وأي دولة عربيّة أخرى أمرًا بعيد المنال، وهي الرسائل التي رشح عن مصادر مطلعة أن المسؤولين الإماراتيين نقلوها إلى الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ الذي زار بلادهم لعدّة ساعات الأسبوع الماضي، في ختام زيارة لمملكة البحرين التي لحقت بركب اتفاقيّات ابراهام بعد الإمارات، وبدعم أو بقرار منها، وحذّرت إسرائيل عبر رئيسها هرتسوغ الذي تربطه برئيس الوزراء القادم بنيامين نتنياهو علاقات وطيدة، من مغبّة أي خطوات كتلك التي رفع إيتمار بن غفير رايتها خلال الانتخابات، وأرغم نتنياهو على تضمينها للاتفاقيات الائتلافيّة، ومنها وقف المعاقبة القانونية لليهود الذين يؤدّون الصلوات في المسجد الأقصى باعتباره" قنبلة حقيقيّة"، قد يقود انفجارها يعني تحويل الصراع مع الفلسطينيّين إلى  إلى حرب دينيّة بين المسلمين واليهود، كما أن صراع دينيّ عقائديّ يعني أن الأراضي الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة ستصبح أكثر توتّرًا، وأن التأثير في الأردن سيكون دراماتيكيًّا، وهذا قد يضرّ بعلاقات إسرائيل مع الدول العربيّة، والتنسيق الاستراتيجيّ السياسيّ المطلوب مع الولايات المتحدة، إضافة إلى أن تطبيق أيديولوجيّة بن غفير قد يقود إلى مواجهة إسرائيليّة داخليّة، وهو عمليًّا ما حذَّر منه جنرالات في إسرائيل أشاروا إلى تفاقم حالة الكراهية الداخليّة بين اليهود أنفسهم وبينهم وبين المواطنين العرب والخشية من عواقبها الوخيمة ، بعد أن تيقن الجميع من أن الدولة تشهد انتشارًا غير مسبوق لوباء الكراهيّة الداخليّة، ممّا يعني فشلها بمحاولة الحفاظ على وحدتها ، وصلت ذروتها بنتائج الانتخابات الأخيرة التي أفرزت مضاعفة قوة وتأثير اليمينيين المتطرفين دينيًّا وسياسيًّا، الذين يطرحون برامج جنونيّة وسط أجواء تعيد للأذهان حالة إسرائيل عشية اغتيال رئيس وزرائها الراحل إسحق رابين في 1995، ما يؤكد أن التصدّع  العميق أصاب المجتمع الإسرائيليّ  ويهدده بالتقسيم، ممّا يشكل تحدّيًا من الدرجة الأولى. يضاف إليه تآكل مستمر لمؤسّسات الدولة وخاصّة الجهاز القضائيّ وجهاز التعليم الذي تنازل عنه الليكود طوعًا للنائب اليمينيّ المتدين والمتطرف آفي معوز الذي يملك اليوم السيطرة على مضامين ومناهج التعليم كذلك لليهود العلمانيين والعرب .

 

 


الأمور لا تنتهي هنا، بل إن اللقاء المذكور يثير أسئلة وتساؤلات عديدة حول خلفيّته، وهناك من يعتقد بما يقترب من الجزم أن وراء الأَكمة ما وراءها، وأن اللقاء وما فيه وقبله وبعده وفي ظلّ الحديث المتزايد عن خليفة للرئيس الفلسطينيّ محمود عباس، الطاعن في السنّ، والذي لا يروق للإماراتيين تمامًا كما لا يروق لإسرائيل، أو بعض الدول الأوروبيّة، جاء تنفيذًا لمشورة قدّمها للقيادة الإماراتيّة شخص مقرّب للغاية منها ومتمرس في السياسة الإقليميّة يدرك عن كثب خبايا الساحة السياسيّة الإسرائيليّة، ويعتبره الأمريكان خير خلف لمحمود عباس، كما يحظى بقبول إسرائيلي تبعًا لذلك،  هو محمد دحلان الناشط في فتح ورئيس جهاز الأمن الوقائيّ في قطاع غزة حتى استيلاء "حماس" عليه عام 2007،  ويدرك تركيبة الخريطة السياسيّة الإسرائيليّة، وحقيقة أن اليمين الذي يسيطر على إسرائيل منذ 1977  ليس أكثر خطرًا على الفلسطينيين من "اليسار" الذي أرسى قواعد وأُسس المستوطنات الإسرائيلية في الخليل، وغيرها وأن اليمين الذي يسيطر على مقاليد السلطة في إسرائيل منذ نهاية سبعينيّات القرن الماضي، هو من صنع السلام مع مصر ومن انسحب من غزة وفكّك المستوطنات وأخلى مستوطنة ألون موريه ، ناهيك عن القاسم المشترك الكبير بين الإمارات ومحمد دحلان وإسرائيل وهو مناهضتهم، بل أكثر من ذ لك للحركات  الإسلاميّة والتوجّهات الدينيّة، وبالتالي فإن السياسة التي تتبعها الإمارات العربية المتحدة تجاه إسرائيل تعتمد الضغط الاقتصاديّ والدوليّ والحديث عن " تقليص مساحة القبول في المنطقة" إضافة إلى الشأن الإيرانيّ، ولا تعتمد أسلوب التهديد والوعيد ولا التلويح بالخيارات العسكريّة، فإسرائيل بجيشها وعتادها أقوى من أيّ جيش في المنطقة، أو من جيوشها مجتمعة، ولا تكترث عمليًّا للرأي العام العالميّ، أو لقرارات الأمم المتحدة معتمدة بذلك على الفيتو الأمريكيّ التلقائيّ " وتأنيب الضمير الأوروبيّ" الذي يمنع أوروبا من الوقوف في وجه إسرائيل، ورغم ذلك يُسأل السؤال: هل بادرة حسن النوايا الإماراتيّة تجاه سموتريتش وبن غفير ، ستقودهما إلى تغيير أو تليين مواقفهما السياسيّة والدينيّة والمتعلّقة بالفلسطينيّين والقدس والأقصى، أم أنها ستقع على آذان صماء؟ وهو سؤال ستكون الأيام القادمة، وهي قريبة كفيلة بالإجابة عليه عبر فحص للسياسات والمواقف على أرض الواقع مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك قوى أخرى تؤثر على السياسيين، وأن سيطرة اليمين على مقاليد الحكم لا تعني بالضرورة، بل إنها قد لا تعني، انفلات الأمور وإشعال النار والحرائق، فهناك في إسرائيل كغيرها من الدول الديمقراطيّة جهاز الدولة العميقة  Deep State الذي يحدّد الأمور ويمنع تدهورها.  

 

 


ويجب أن نضيف إليه العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة التي تضمن أن لا تنفلت الأمور أو، أن تخرج عن السيطرة، أو أن تصل حدّ اندلاع حرب، أو انتفاضة بسبب جماعات ومجموعات استيطانيّة متطرّفة، أو حتى وزراء متطرفين يطالبون بطرد الفلسطينيين، أو من تسول له نفسه أن يغامر بمحاولة فتح الأقصى أمام اليهود ما يعني صدامًا مع كافة الدول العربيّة والأوروبيّة وحركات سياسيّة داخليّة، وتصادم بين العرب واليهود، سببه تنامي المواقف العنصريّة ضد العرب ومن غير اليهود وانعدام " الخجل" من طرح مواقف عنصريّة تؤكد فوقيّة عرق على غيره ، كما فعل ترامب في الولايات المتحدة، وفق ترامبيته المنفلتة التي يبدو أن نتائج انتخابات النصف الأمريكيّة الأخيرة أثبتت أن بريقها يخفت في أمريكا مقابل ازدهارها وإِزهارها هنا في إسرائيل، متناسين أوجه الشبه بين ما كان في المعارك، أو الحملات الانتخابيّة الخمس خلال ثلاث سنوات ونصف وخاصّة الأخيرة منها ، من مظاهر عنصريّة وخطابات .

 

 


كراهية، أرادت الانقلاب على المساواة والمواطنة  هنا في إسرائيل وتحييد   وإقصاء الأقليّات، تمامًا كما جاء ترامب ليقلب موازين القوى في دولة عمر الديمقراطيّة فيها أكثر من مائتي عام باستناده إلى خطاب القطيع الذي يلغي الديمقراطيّة كخطاب موجه إلى المجتمع بأكمله ويحوّله إلى خطاب منعزل يعزف على الأصول العرقيّة والأثنيّة والغرائز البدائيّة العدوانيّة والتحريضيّة، ويكرّس الانقسام في المجتمع  وتحويله إلى طوائف وجماعات متناحرة  متعادية ومتخاصمة ، لا يمكن الجمع بينها على أساس المواطنة المتساوية، فترامب لم يتورّع عن العزف على سمفونية أفضلية الجنس الأبيض، واللعب ببطاقة التعصّب في تجمعه الانتخابيّ، ووصف أنصاره البيض بالتفوق الجينيّ. وهو ما يحدث في إسرائيل، ولكن بشكل معكوس، إذ لم يتورع نتنياهو واليمين والمتدينون عن اللعب على وتر العرقيّة والإثنية، واتهام المعسكر الآخر بالفوقيّة والعنصريّة، وإلصاق تهم محاولة الإقصاء به، ليصبح الأمر مماثلًا لما حدث في عهد ترامب الذي لم .

 

 


يمثّل حزبًا سياسيًّا فاز في الانتخابات الرئاسيّة ثم  هُزِم فيها ، بقدر ما مثّل تيارات اجتماعيّة متعدّدة ومختلفة. وهو ما كان في إسرائيل فالليكود مثَّل – كما يدعي- الشرقيين أو إسرائيل الثانية وحزب "شاس" الشرقي المتدين مثَّل اليهود المتدينين الشرقيّين من أصول عربية وحزب " يهدوت هتوراة" مثَّل اليهود المتدينين من أصول غربيّة أوروبيّة، واليسار كذلك فأحزابه لم تمثِّل معسكرًا واحدًا، بل مجموعات منها اليساريين العلمانيين، أو العرب الذين انشقوا على أنفسهم، وكما ترامب، الذي رفع منذ فترة حملاته الانتخابيّة عام 2016 شعار "فلنرجع أمريكا عظيمة مجدّدًا" ، رفعت أحزاب اليمين شعارات تعتمد" القيادة القوية" وعظمة القوة اليهوديّة واستعادة السيطرة والكرامة اليهوديّة، وكما تمكن ترامب  خلال اقتحام  الكونغرس من ضرب  صورة الولايات المتحدة الأمريكيّة كدولة ديمقراطيّة، استطاع اليمين بحملاته ضد الجهاز القضائيّ، ورفضه قبول الحسم الانتخابيّ الذي أوصل نفتالي بينيت إلى منصب رئاسة الحكومة وبعده يائير لبيد، وقبل أن يشارك حزب عربيّ في الائتلاف، وليس الحكومة، لأول مرة في تاريخ إسرائيل، واعتبر اليمين ذلك تنازلًا عن الثوابت وبيعًا لأرض إسرائيل إلى أعداء إسرائيل،  وجعل من مؤيّديه مجموعة تخلّصت  من كبح النفس والحواجز، أو الضوابط التي كانت تمنعها من التحرّك ليصل الأمر إلى ارتكاب أفعال لا يجرؤ بمواطن مفرده على القيام بها، ومنها ملاحقة أعضاء الكنيست وتهديدهم والاعتداء عليهم ومعها امتناع أعضاء الكنيست من اليمين والمعارضة السابقة عن المشاركة في عمل البرلمان، أي انتهاء عهد مصطلحات  كانت سائدة منها روح المسؤوليّة والإحساس بالمصلحة العامّة تمامًا، وهو ما وصفه  العالم النفسيّ غوستاف لوبون ( علم نفس الجماهير) في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" بانتقال العدوى،  بين الغوغاء والقطيع .

 

 


هكذا فعل ترامب بأنصاره في أمريكا، وهكذا حدث مع اليمين في إسرائيل، ليتحوّل الأنصار إلى مجموعة لا قدرة لها على الخيار السليم، بل إنها أشبه ما تكون تخضع لعمليات التنويم المغناطيسيّ وغسل أدمغتهم وإشباعهم بمعلومات ومعطيات كاذبة تقتل الديمقراطية إذا لم تعجبها النتائج، وتحوّل التأييد إلى تأليه لقائد يجب النيل من كلّ معارضيه، مهما كلّف ذلك، حتى لو كانت الوسيلة حكومة سيّئة متطرّفة تعيد البلاد عشرات السنوات إلى الوراء. تمارس التمييز على رؤوس الأشهاد، وتجعله سياسة وراية انتخابية وسلعة يشتريها مئات الآلاف في إسرائيل بعد عقود كانت سلعة مرفوضة وعبئًا منبوذًا.

 

 


الأسبوع القادم ستكتب الكنيست شهادة ميلاد حكومة اليمين المتطرّف دينيًّا وسياسيًّا، وستنهي حكومة التغيير "نسبيًّا "مسيرتها. والتشاؤم هو سيد الموقف باعتبار الرسالة تقرأ من عنوانها، لكن الحياة السياسية هي فن الممكن، أو فنّ الموجود وليس المنشود، فهل ينهزم المنشود من شعارات انتخابيّة وغوغائيّة لتكون الغلبة للموجود ؟.
 

 

 

תגובות

מומלצים

\